جاء في عُمدة الحُفّاظ، للسمين الحلبي:" الزوج في اللغة: الواحد الذي يكون معه آخر، والاثنان زوجان، يقال زوجا خفٍّ وزوجا نعل...". إذن لا يقال عن الفرد زوج حتى يكون معه آخر يكمّله في وظيفته. والزوجيّة قانون كونيّ، انظر قوله تعالى في الآية 49 من سورة الذاريات:" ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكَّرون"، وجاء في الآية 36 من سورة يس:" سبحان الذي خلق الأزواج كلّها ممّا تُنبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون".
المتدبّر لسورة الرحمن يلاحظ من البداية التركيز على الثنائيّة في الخلق والتكوين، ويلفت انتباهه الخطاب المتكرر للمخلوقَيْن المكلَّفَيْن، الإنس والجنّ:" فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان".
وهذا ينبّهنا إلى الثنائيّة في خلق الإنس والجنّ؛ ففي الإنس هناك الأنثى والذكر، وفي الجن أيضاً، كما تؤكّد الآيات القرآنيّة الكريمة.
وإذا كانت الثنائيّة الزوجيّة قانوناً في عالم الإنس وعالم الجنّ بحيث يُكمّل كلّ زوج زوجه في الوظيفة، فما الذي يمنع أن تكون الثنائيّة في خلق الإنس والجنّ هي ضمن القانون العام من أجل أن تتكامل الوظائف، وإن كانت النصوص القرآنيّة تؤكّد بأنّ الإنسان هو الأهم في هذه المعادلة الثنائيّة. وهذه الأهميّة لا تمنع أن يكون وجود عالم الجن مهمّاً من أجل تكميل عالم الإنس. ويبدو أنّ وجود عالم الجنّ كان المقدّمة لوجود العالم الأهم، أي عالم الإنس. وهذا لا يعني التقليل من أهميّة عالم الجنّ، فالآيات القرآنيّة تؤكّد أهميّة عالم الجنّ بل وتقرنه بعالم الإنس.
جاء في الآيتين 17 و 18 من سورة الرحمن:" ربّ المشرقين وربّ المغربين، فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان"؛ فالشروق والغروب إذن من النعم التي أنعمها الله تعالى على هذين المخلوقين المتكاملين في وجودهما وكينونتيهما. وهناك شروق وغروب للشمس وشروق وغروب للقمر، وهذه ثنائيّة تكامليّة؛ فعندما تغيب الشمس يشرق القمر، وعندما تشرق الشمس يغيب القمر. وللشروق وظيفة يكمّلها الغروب. وإذا كان النهار هو الأهم لحياة الإنسان والكائنات فإنّ الليل ضرورة تكمّل وظيفة النهار، ولا يصلح النهار وحده حتى يكون ليل. ويبدو أنّ عالم الإنس كالنهار وعالم الجنّ كالليل.
جاء في الآيات (19، 20، 21) من سورة الرحمن:" مَرَج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان"، فإذا كان هناك التقاء بين مياه البحر المالح والبحر العذب فإنّ هناك حاجزاً يمنع اختلاطهما ويمنع أن يبغي أحدهما على الآخر. وعليه فقد يكون هناك نوع من اللقاء بين عالم الإنس والجنّ، يدركه الجنّ أكثر ممّا يدركه الإنسان، ولكن هناك حاجزاً يمنع من الاختلاط ويمنع من أن يبغي أحدهما على الآخر.
لا نريد هنا أن نستمر في استعراض الآيات القرآنيّة من سورة الرحمن، ولكن قصدنا إيصال الفكرة التي تقول باحتمال تكامل هذين العالَمين. وهذا التكامل ليس دنيويّاً فقط، بل هو أيضاً مستمر في عالم الآخرة، أي في العالم الآخر الذي هو أهم، وما الدنيا إلا المقدمة له.
جاء في الآيتين 46، 47 من سورة الرحمن:" ولمن خاف مقام ربّه جنّتان فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان"، فإذا كان المقصود جنّة للإنس وجنّة للجنّ، فإنّ ذلك يعني أنّ قانون الثنائيّة يستمرّ في الآخرة؛ فالجنّة التي يتمتّع بها الإنس يوازيها جنّة أخرى يتمتّع بها الجنّ. ويبدو أنّ وجود كلّ واحدة منهما ضرورة لوجود الأخرى. وعدم إحساس الإنسان بجنّة الجنّ لا يعني أنه لا يتمتّع بوجودها؛ فعندما نشعر بالنشاط، مثلاً، فإنّ ذلك لا يعني أننا قد عرفنا وأحسسنا بوعي بسبب هذا النشاط. والعكس أيضاً، فكم من مرضٍ في الدنيا مسبباته مجهولة وغير محسوسة للإنسان.
تكرار الآية الكريمة:" فبأيّ آلاءِ ربّكما تكذّبان"، يفيد - زيادة على ما يقوله أهل التفسير- بأنّ عالم الجنّ يستمتع بما يستمتع به عالم الإنس. ويبدو أنّ الجنّ يشبه في خلقه خلق الإنسان إلى حدّ كبير، لأنّ ما تستعرضه سورة الرحمن من نِعم هي نِعم على الإنس والجنّ، بدليل تكرار السؤال لهما:" فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان"، وعندما يصف القرآن الكريم الجنتين يقول:" ذواتا أفنان"، ثمّ يسأل:" فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان"، وهذا يعني أنّ الجنّة التي تكون أغصانها غضّة مورقة يتمتّع بها الجنّ كما يتمتّع الإنس. ولا يمنع أن تكون الصورة هي الأمر المشترك بين عالَمين مختلفين ولكنّهما متكاملان. وعندما يقول سبحانه:" فيهما عينان تجريان، فبأي آلاء ربكما تكذبان"، يدل ذلك على تمتّع الجنّ بالعين التي تجري ... الخ.
وخلاصة الأمر، أنّه بإمكانك أن تستعرض آيات سورة الرحمن لتأخذ فكرة مناسبة عن الأمور المشتركة بين الإنس والجنّ في عالم المتعة واللذة وعالم الألم والمعاناة. ونكرر فنقول: قد يكون التشابه في عالم الصورة؛ فهناك فُرش واتكاء، وهناك فواكه ونخيل ورمان... وهناك وهناك. ولكن قد يكون الواقع عبارة عن الصورة والصورة المقابلة المكملة للوظيفة. الصورة المحسوسة للإنسان يقابلها الصورة المحسوسة للجن. فهناك على ما يبدو عالمان يتماثلان في الصور ولكنهما يختلفان أيضاً بحيث تلائم كل صورة ما خُلقت له. ولكنهما عالمان متلازمان متكاملان يحتاج أحدهما الآخر لتتكامل الوظيفة.
جاء في الآية 31 من سورة الرحمن:" سنفرغ لكم أيّها الثقلان": وهذا يشير بوضوح إلى أهميّة الإنس والجن، بل كأنّه لا يوجد عالم ثالث هو أهم منهما. أما الملائكة فهم عالم غير مكلّف وله وظائف، بل لقد كُلّف أن يسجد للإنسان. فالثقل يشير إلى الأهميّة القصوى. وقد استشكل أهل التفسير معنى آية:" سنفرغ لكم أيّه الثقلان"، ويرجع جزء من هذا الاستشكال إلى كونهم قد فهموا أنّ الآية هي في معرض التهديد. وفي الحقيقة لا إشكال، بل هذا يدل على أهميّة هذين العالَمين المتكاملين اللذين لا ينفكان دنيا ولا آخرة. والذي نراه أنّ الآية في معرض ذكر النعم التي أنعمها سبحانه وتعالى على الإنس والجنّ، وليست في معرض التهديد.
جاء في الآية 13 من سورة الجاثية:" وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون": فبناء السماوات والأرض وكلّ ما فيها قد سُخّر للإنسان، بل إنّ هذا النظام الكونيّ سيُبعثر وتعاد صياغته يوم القيامة، انظر الآية 48 من سورة إبراهيم:" يوم تُبدّلُ الأرضُ غير الأرض والسماواتُ وبرزوا لله الواحد القهّار". فإذا كانت السماوات والأرض مسخّرةٌ في الدنيا لصالح الإنسان، وإذا كان هذا النظام سينفضّ ويُستبدل عند قيام هذا الكائن ثقيل القدر، فمن المتوقّع أن يكون النظام الأخروي مسخراً من أجله أيضاً- مضافاً إليه عالم الجن الذي يكمّله- بحيث لا خلق إلا من أجلهما ومن أجل وظيفتهما الجليلة، التي لم يدرك الإنسان حتى الآن عظمتها وجلالها. انظر قوله تعالى:" سنفرغ لكم أيها الثقلان"، نعم، سيكون كل خلقٍ خُلِق، أو سيُخلق، هو لكما ومن أجلكما. وهذا يعني أنّه لا بدّ لنا أن نعيد النظر في فهمنا للآيات الكريمة من سورة الرحمن، وغيرها من السور، في محاولة لتشكيل صورة حقيقيّة عن مكانة الإنسان في الدنيا والآخرة.
No Comments