تُستهل سورة مريم بالحديث عن قصّة مولد يحيى، عليه السلام. ثمّ تفصّل قصّة مريم وحملها بالمسيح، عليهما السلام. ثمّ يأتي التعقيب على القصّة:" ذلك عيسى ابن مريم قولَ الحقِّ الذي فيه يَمترون. ما كان لله أنْ يتخذَ من ولدٍ سبحانه إذا قضى أمراً فإنّما يقولُ له كن فيكون. وإنّ الله ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم. فاختلف الأحزابُ من بينهم..." مريم:(34-37). اللافت في هذا التعقيب الآية 36:" وإنّ اللهَ ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم"، فقد ذكر بعض أهل التفسير أنّ المتكلم هو المسيح، عليه السلام، وأنّ العطف هنا على قوله - وهو في المهد - في الآيات 30- 33:" قال إنّي عبد الله... ويوم أبعث حيّاً". ولا شك أنّ مثل هذا العطف لافت للنظر وذلك لوجود الفاصل المتمثل بالآيتين 34 و 35 فبعد أن انتهى من كلامه، عليه السلام، عاد ليتكلم مرة أخرى!!
جاء الإعلان الأول لعيسى، عليه السلام، وهو طفل في المهد:" قال إنّي عبد الله آتانيَ الكتاب وجعلني نبياً. وجعلني مباركاً أين ما كنتُ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً. وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيّاً. والسلام عليَّ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أبعثُ حيّاً".مريم:(30،31،32،33) وهذا الإعلان فيه تفنيد لكل المزاعم التي ستأتي في مستقبل الزمن، وفيه بيان لحقيقته ووظيفته، عليه السلام.
أما الإعلان الثاني، الذي ورد في الآية 36 من سورة مريم، فقد جاء بعد بعثته عليه السلام، بدليل أنّ ذلك قد ورد على لسانه عليه السلام بعد النبوة؛ انظر الآيات من 63 إلى 65 من سورة الزخرف:" ولمّا جاء عيسى بالبيّنات قال قد جئتكم بالحكمة ولأُبيّنَ لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون، وإنّ الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيم، فاختلف الأحزاب من بينهم فويلٌ للذين ظلموا من عذاب يومٍ أليم". وبذلك يتبين أنّ هذا الإعلان كان بعد بعثته، عليه السلام. وقد يفسّر هذا لنا وجود الفاصل في سورة مريم بين إعلانه في المهد وإعلانه بعد البعثة، عليه السلام. ومما يؤكّد هذا ما ورد في الآية 49 من سورة آل عمران في سياق خطابه، عليه السلام لبني إسرائيل:" ورسولاً إلى بني إسرائيل أنّي قد جئتكم بآية من ربكم... ومصدقاً لما بين يديَّ من التوراة..."، ثم تأتي الآية 51:" إنّ الله ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم". وعندما نعلم أنّه لا يوجد في النصّ القرآنيّ الكريم غير هذه المواقع الثلاثة لمثل هذا الإعلان، يتحقق لدينا أنّ الإعلان في الآية 36 من سورة مريم هو على لسان المسيح، عليه السلام، وذلك بعد بعثته.
وكما يبدو فالمسيح، عليه السلام، له في سورة مريم إعلان ثالث، جاء أيضاً بعد فاصل أطول من الإعلان السابق، وذلك بعد الانتهاء من ذكر بعض الأنبياء، عليهم السلام، ثم جاء التعقيب الآتي:" فخلفَ من بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يَلقون غَيّاً. إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنّةَ ولا يُظلمون شيئاً. جناتِ عَدْنٍ التي وعد الرحمنُ عباده بالغيب إنّه كان وعده مأتيّاً. لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيّاً. تلكَ الجنّةُ التي نورثُ من عبادنا من كان تقيّاً. وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلْفنا وما بين ذلكَ وما كان ربك نسيّاً".مريم:(59 – 64) وكما تلاحظ يحار المتدبّر في معرفة المتكلم في هذه الآية، هل هم أصحاب الجنّة، كما ذهب إليه بعض أهل التفسير، أم هو جبريل، عليه السلام، كما نُقل في أسباب النزول؛ فقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس، رضي الله عنهما: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لجبريل، عليه السلام:" ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا"، فنزلت:" وما نتنزّل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيّاً".
فالحديث في سبب النزول صحيح، ولكن السياق لا يساعد على هذا الفهم. فكيف نجمع بين ما صحّ في سبب النزول وبين السياق؟!!
اشتياق الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى لقاء جبريل، عليه السلام، وطلبه أن يكثر من النزول إليه ناسب أن تنزل هذه الآية لتكون الإجابة عن طلبه، عليه السلام، وإن كانت لا تخص نزول جبريل، عليه السلام، فقط. فهي كلام الله تعالى على لسان جبريل، عليه السلام، وغيره ممن يؤذن لهم في النزول؛ كالملائكة وكعيسى، عليه السلام، وغيره ممن يحتمل أن ينزلوا بعد رفع. ومن هنا نجد أنّ المتكلم جماعة:" وما نتنزّل... أيدينا... خلفنا...". أما المخاطب هنا فهو الرسول، صلى الله عليه وسلم:" بأمر ربّك... وما كان ربّك..". نعم فالنزول لا يكون إلا وفق الأمر الربّاني ولحكمة يريدها الله تعالى، فكلّ شيء في هذا الكون منضبط ولا يكون إلا لحكمة يريدها الربّ المربي لخلقِهِ بالرسالات وغيرها. وكون المخاطب هنا هو الرسول، عليه السلام، ففيه تأكيد بأنّ كل ما يكون من تنزلات هو في سياق الرسالة الخاتمة؛ فكلّ ذلك يتمّ بأمر ربك يا محمد، وما كان ربك يا محمد نسياً.
فالسياق يجعلنا أكثر ميلاً إلى القول بأنّ المتكلم في الآية 64 هو المسيح، عليه السلام، لأنّ نزول جبريل، عليه السلام، بقولٍ وإعلانٍ للمسيح يصلح أن يكون إجابة عن سؤال الرسول، صلى الله عليه وسلم، كيف لا، وهو قاعدة لا تتخلف لا في المسيح ولا في غيره ممن يمكن أن يتنزّل.
فللمسيح إذن ثلاثة إعلانات؛ واحد وهو طفل في المهد، وآخر وهو رسول يدعو قومه، وثالث وهو في السماء مرفوع. وبذلك يتّضح أنّ الإعلانات الأول والثاني والثالث جاءت في سياق واحد. وأنّ العطف في الثاني والثالث كان على الأول. أما مضمون هذه الإعلانات فيحتاج إلى توقّف وتدبّر.
No Comments